Translate

الاثنين، 18 ديسمبر 2017

أكذوبة خير القرون وتأثيرها على خريطة الأفكار

بقلم:سامح عسكر - عن oman.net
مخطئ من يظن أن الماضي يبني الحاضر..التاريخ لا يعترف إلا بالمستقبل....وبدون رؤية المستقبل سنفشل في حاضرنا وسنظل نراوح أمكنتنا مهما حدث...التاريخ غير خطي لأنه ينطلق من الحاضر برؤية المستقبل، فلكل زمن نسبة وتناسب يخدعان الحمقى والمُغفّلين.وبإهمال البعض لمقدمات التناسب يقعون أسرى للوهم..فإذا كان إنسانُ اليوم يخدع ويكذب ويتعصّب فالماضي ليس بريئاً من ذلك..الإنسان كما هو منذ أن وُجِدَ على البسيطة..

من ينادي بالخلافة والدولة.. "الإسلامية"..فهو يُفكر من ماضيه، ولا توجد لديه رؤية مستقبلية تحمله على تصور أو حتى تفسير واقعه.. وسيظل معزول عن الحضارة وعن العالم إلى ما شاء الله..مِسكين فهو أسير لأكذوبة خير القرون قرني..تلك الأكذوبة التي بُنيت على حديثٍ صحيح السند ولكنه فاسد المتن والمعنى، وما أكثر في تراثنا ما صحّ سَنَده ولكن فَسَد متنه ومعناه...الحديث يقول..قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)..وفي رواية أخرى..(خير الناس قرني)..وهنا يأتي الإشكال..كيف نصدق أن الرسول قال ذلك وفي زمانه- وفي زمن الخلفاء- حدثت المجازر والفِتن والبلايا التي لحفت بالمسلمين؟!.....وهل بتصديقنا بأن أفضل الناس هم أهل القرون الثلاثة الأولى نكون قد صدقنا بضرورة حدوث تلك الفِتن والبلايا في سائر الأعاصير اللاحقة نزولاً إلى مبدأ قياس الأسوأ على الأفضل؟!.

لو صدقنا أكذوبة القرون المُفضّلة الأولى نكون كالذي آمن بتدهور الزمان من عصر رسول الله إلى سائر العصور اللاحقة...وهذا يعني استسلامنا التام لكافة صنوف الظلم والاستغلال- التي تجري الآن- بحُجة أنه ليس في الإمكان أكثر مما كان...وكيف نُصدّق ذلك وقد قال الله في كتابه العزيز .."إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..أين أفضلية السابقين هنا يامن تعقلون بنقلكم..إن هذا القول لهو أعظم الأدلة على فساد مفهوم"القرون المُفضلة وما يرتبط به من مفاهيم سلطوية تُعطي الخيرية للسابقين دون اللاحقين..فإطلاق الحُكم هنا دلالة على قاعدة المفاضلة بالتقوى وليس بمجرد الزمان ولا حتى العلم ولا السُمعة.

في تقديري أن المسلمون تقبلوا هذه المفاهيم بناءاً على اعتقادٍ راسخ بأفضلية جيل الصحابة وآل البيت على سائر عموم المسلمين في كل زمانٍ ومكان..وهذا الاعتقاد بحاجة لتحرير ومراجعة تعمل على تعريف هذه الأجيال من جديد لنعلم من هو المقصود..فليس الفاروق عمر بن الخطاب- والذي اشتهر بعدله وزُهدِه- كمعاوية بن أبي سفيان -والذي اشتهر بظُلمه وجبروته..هذا مِثال للمقاربة..فلا يصح أن أتخذ حاكماً ظالماً أو رجلاً فاسقاً قدوةً لي ولأولادي..وكذلك في بعض من عدتهم عصور التقليد والانغلاق صحابةً وهم لم يُكملوا العامين عند وفاة رسول الله، أو من رآهم النبي ولكن كانوا فاسقين ومنافقين ومجرمين ..ولكن عدّهم البعض صحابةً لأغراضٍ سياسية أو مذهبية.

الأزمة ما زالت قائمة..أننا نعتقد في أنفسنا الضعف والقصور بمجرد وجودنا وليس بمجرد أعمالنا، وأن السابقين أفضل من اللاحقين مهما حدث ، حتى لو كان اللاحقون اجتهدوا ونجحوا في صناعة الحضارة..والنتيجة أن تفسد أعمالنا ونعتقد فيها الخطأ مهما بلغت من صواب..فلا نبرح أمكنتنا ونفقد الثقة في أنفسنا...يبقى السؤال لماذا نُصر على احتقار ذواتنا وأن الإنسان مُذنب بطبيعته وليس بعمله؟!..أليست تلك الرؤية هي بعينها رؤية من يقولون أن الإنسان يحمل خطايا آدم إلى يوم القيامة؟!..ولماذا لا ننظر إلى الدين بأنه المُحفّز على الانطلاق والنهوض بدلاً من الاستكانة والرضوخ؟!.

بتحرير هذه المفاهيم سنرى أزماتنا بوضوح أننا بشراً مُقلدين وليسوا مجددين، وأن خرائط أفكارنا مشوّهة أو ليست واضحة.. فلا مُفاضلة ولا خيرية لأحدٍ على أحد إلا بالتقوى..ولا مفاضلة لزمانٍ على زمان إلا بصلاح أهله..فإذا كان أهل العصور لم يحكم الله لهم بالفضل إلا بتقواهم فهذا إثباتُ واضحُ وجليّ بأن الزمان والمكان لا علاقة له بالمُفاضلة..بل كانت الأخلاق هي المعيار للتفاضل...معياراً لا يعرف الحدود الجُغرافية والتاريخية، بل الأخلاق لذاتها كونها تخص الإنسان لذاته ..والذي هو مُكلفُ من رب العالمين بالإصلاح وعمارة الأرض..والقارئ للقرآن سيرى أن الله يفضح المنافقين والفاسقين والكاذبين ممن كانوا حول رسول الله ويؤذون نبيه ..فكيف نسمح لأنفسنا بأن نُعطي لزمان هؤلاء الأفضلية ونحن نعلم أن غالب أهل هذا العصر كانوا منافقين وكَذبة وفَسَقة لم يسلم منهم مؤمناً ولا شريفاً عفيفا.

من يزعم بأن القرون المُفضلة هي القرون الأولى للمسلمين....نُذكره بأن الكعبة المُشرفة تم حرقها في القرن الأول الهجري مرتين:

الأولى :على يد المُجرم الأموي.. "الحُصين بن نمير".. والذي كان يشغل قائداً لجيش يزيد بن معاوية لإخضاع أهل المدينة بعد استباحتها في موقعة"الحِرة" على يد المجرم الأموي الآخر.."مسلم بن عقبة"..هذه الموقعة التي حدثت فيها جرائم تندى لها الجبين من قتل للصحابة وللنساء وللأطفال بمنتهى القسوة والوحشية..

الثانية:على يد المجرم الأموي الآخر.."الحجاج بن يوسف الثقفي".. والذي كان يشغل قائداً لجيش عبدالملك بن مروان ..وذلك لإخضاع أهل مكة المُكرمة وقائدها الصحابي.."عبدالله بن الزبير"..فكانت النتيجة أن قتل الحجاج الصحابي ابن الزبير ثم قطع رأسه ثم صَلَبه بمنتهى الوحشية..

تأملوا ما كان يحدث في خير القرون!..فإذا نقدنا مزاعمهم قالوا بأن الصحابة والتابعين هم الأفضل..قلنا بأن ذلك مقبولُ شرعاً وعقلاً..ولكن أن نجعل زمانهم هو الأفضل فهو تفضيل بمجرد الزمان لا الأفراد..وبالتالي تتضمن تلك المفاضلة أفعال وسلوكيات من عاشوا في تلك القرون لانتفاء المفارقة في أصل الدليل وهو حديث رسول الله، فهو لم يُبين أي شئ واكتفت الرواية بإطلاق هذا الحُكم الأعمى والذي لا يصدر عن رسول معصوم..

هذه هي رؤية التقليديين الجامدة من الذين يروجون لخُدعة..(فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة)..فالرباط وثيق بين هذه وتلك، لِذا ستراهم يُدافعون عن أكذوبة القرون المُفضلة بكل ما أوتوا من قوة ..سيدافعون عنها كونها تخدم عقيدتهم وأيدلوجياتهم باستخدام شعار يقع في أسره الكثيرين من المُغيبين....وهو شعار..(سلف الأمة)..وهنا يُثار السؤال بطريقة مباشرة..من هم سلف الأمة الذين تقصدون؟!..هل هم الأشعرية أم الماتوريدية أم أهل الحديث أم الحنابلة أم المعتزلة أم ماذا بالضبط؟!..وما هي قواعد هذا الفهم الذي تدعون؟!..وهل كان الصحابة متفقين في قضايا الاجتهاد كي نجمعهم على فهمٍ واحد؟!.. وهل قول الصحابي لديكم هو دليل معتمد أم متوهم؟!.فإذا كان مُعتمداً فكيف توفقون بين خلافهم الفقهي والعقدي والسياسي؟.

سؤال آخر..هل هذه القرون المفضلة "المزعومة" هي أفضل لديكم من قرون الأنبياء؟!..يعني هل يزيد والحجاج وبِسر بن أرطأة ومعاوية وحُكّام بني أميّة.. هم أفضل من سيدنا داوود وسليمان وابراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى عليهم السلام؟!...لقد روى القرآن لنا كيف اختلفت أفهام الأنبياء مع بعضهم البعض..فهذا هو النبي داوود وإبنه النبي سليمان -عليهم السلام- قد اختلفا في أمر الحرث..فكانت الحِكمة مع سُليمان والخطأ مع داوود.. ومع ذلك فالإثنين قد آتاهما الله العلم والحكمة.

ماذا نفهم من ذلك؟


نفهم مُباشرةً أن الدين الإسلامي لم يُفاضل بين الناس بمجرد الزمان، وأن الفهم والعلم في مقابل الخطأ والجهل هي صفات ضرورية تجتمع في سائر الناس في شتى العصور...وأن الاعتقاد بخيرية زمان على زمان أو جيل على جيل هو ضرب من الدجل والكذب يقضي على خريطة أفكار البشر ممن التحفوا بتلك العقائد والأوهام..والمصيبة أنها تكذيبُ لصريح القرآن الذي وصف أهل الأرض في زمان الأنبياء بأن أكثرهم غافلون ولا يعقلون ولا يعلمون ولا يشكرون وهم جُهّال لا يؤمنون..فالأكثرية لم تكن صالحة- هكذا علمنا القرآن..وأن حكمة الله في الأرض أن الصالحين هم أقلية وقد تصل أحياناً إلى حد النُدرة..ليس لعدم شيوع أفكارهم أو مبادئهم بل هي شائعة والإنسان يعلم الخير من الشر بالفطرة، واختلافه في تعيين كلاهما يأتي تِبَعاً لهواه أو لطبائعه أو لأفكاره وعقائده..ولكن ما يُميز هؤلاء الصالحين أنهم كانوا حُكماء على مرّ العصور، وأنهم يعلمون وظيفة الإنسان الرئيسة في هذا الكون...وأنهم بحكمتهم قادرون على التحكم في سلوكياتهم ومعلوماتهم.

في تقديري أن الفلاسفة من هؤلاء..أصاب منهم البعض أو ضلّ ليس هنا الإشكال..بل هم اجتهدوا في تحصيل معارفهم ولم يسمحوا لأحد بأن يُشكّل خرائط أفكارهم، لم يستسلموا للتقاليد ولا للأعراف..بل أطلقوا لأذهانهم ولأرواحهم العَنَان..ولا أشك ولو للحظة واحدة بأن الأنبياء لم يكونوا فلاسفة..بل هم فلاسفة وحُكماء عصورهم على مرّ التاريخ..كان الأنبياء يدعون الناس للمِثالية في القول والعمل..ومع ذلك هم يعلمون أنهم يُخاطبون بشراً يُفترض فيهم أن يكونوا هم قدوة أولئك الناس..فالدعوة للمثالية إنما هي في حقيقتها دعوة لمثالية الذات قبل الآخر..والصوفيون يعون هذه القضية بل هي لديهم أصل..أن الإنسان يدعو نفسه ويفتش في ذاته قبل دعوة الآخرين والتفتيش عليهم وعلى نواياهم..وأن الظن بالله هو جزء من عبادته..تلك العبادة والتي هي من المُفترض أن تكون قائمة على الشُكر والرضا وليس على الطَلَب والرغبة..فمن يشكر فهو يعبد الله..وأما من يطلب ويدعو لتحقيق أمنياته ومطامعه فهو في حقيقته إنسان مُخادع ولا يعبد الله حق عبادته إنما يعبد نفسه ويجعل الله وسيلة لتحقيق رغباته وأحلامه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق